بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ
مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفَدْ مَكْبولُ
2 وَمَا سُعَادُ غَداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا
إِلاّ أَغَنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
3 هَيْفاءُ مُقْبِلَةً عَجْزاءُ مُدْبِرَةً
لا يُشْتَكى قِصَرٌ مِنها ولا طُولُ
4 تَجْلُو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَتْ
كأنَّهُ مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعْلُولُ
5 شُجَّتْ بِذي شَبَمٍ مِنْ ماءِ مَعْنِيةٍ
صافٍ بأَبْطَحَ أضْحَى وهْوَ مَشْمولُ
6 تَنْفِي الرِّياحُ القَذَى عَنْهُ وأفْرَطُهُ
مِنْ صَوْبِ سارِيَةٍ بِيضٌ يَعالِيلُ
7 أكْرِمْ بِها خُلَّةً لوْ أنَّها صَدَقَتْ
مَوْعودَها أَو ْلَوَ أَنَِّ النُّصْحَ مَقْبولُ
8 لكِنَّها خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِها
فَجْعٌ ووَلَعٌ وإِخْلافٌ وتَبْديلُ
9 فما تَدومُ عَلَى حالٍ تكونُ بِها
كَما تَلَوَّنُ في أثْوابِها الغُولُ
10 ولا تَمَسَّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمْتْ
إلاَّ كَما يُمْسِكُ الماءَ الغَرابِيلُ
11 فلا يَغُرَّنْكَ ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ
إنَّ الأمانِيَّ والأحْلامَ تَضْليلُ
12 كانَتْ مَواعيدُ عُرْقوبٍ لَها مَثَلا
وما مَواعِيدُها إلاَّ الأباطيلُ
13 أرْجو وآمُلُ أنْ تَدْنو مَوَدَّتُها
وما إِخالُ لَدَيْنا مِنْكِ تَنْويلُ
14 أمْسَتْ سُعادُ بِأرْضٍ لا يُبَلِّغُها
إلاَّ العِتاقُ النَّجيباتُ المَراسِيلُ
15 ولَنْ يُبَلِّغَها إلاَّ غُذافِرَةٌ
لها عَلَى الأيْنِ إرْقالٌ وتَبْغيلُ
16 مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إذا عَرِقَتْ
عُرْضَتُها طامِسُ الأعْلامِ مَجْهولُ
17 تَرْمِي الغُيوبَ بِعَيْنَيْ مُفْرَدٍ لَهِقٍ
إذا تَوَقَّدَتِ الحَزَّازُ والمِيلُ
18 ضَخْمٌ مُقَلَّدُها فَعْمٌ مُقَيَّدُها
في خَلْقِها عَنْ بَناتِ الفَحْلِ تَفْضيلُ
19 غَلْباءُ وَجْناءُ عَلْكومٌ مُذَكَّرْةٌ
في دَفْها سَعَةٌ قُدَّامَها مِيلُ
20 وجِلْدُها مِنْ أُطومٍ لا يُؤَيِّسُهُ
طَلْحٌ بضاحِيَةِ المَتْنَيْنِ مَهْزولُ
21 حَرْفٌ أخوها أبوها مِن مُهَجَّنَةٍ
وعَمُّها خالُها قَوْداءُ شْمِليلُ
22 يَمْشي القُرادُ عَليْها ثُمَّ يُزْلِقُهُ
مِنْها لِبانٌ وأقْرابٌ زَهالِيلُ
23 عَيْرانَةٌ قُذِفَتْ بالنَّحْضِ عَنْ عُرُضٍ
مِرْفَقُها عَنْ بَناتِ الزُّورِ مَفْتولُ
24 كأنَّما فاتَ عَيْنَيْها ومَذْبَحَها
مِنْ خَطْمِها ومِن الَّلحْيَيْنِ بِرْطيلُ
25 تَمُرُّ مِثْلَ عَسيبِ النَّخْلِ ذا خُصَلٍ
في غارِزٍ لَمْ تُخَوِّنْهُ الأحاليلُ
26 قَنْواءُ في حَرَّتَيْها لِلْبَصيرِ بِها
عَتَقٌ مُبينٌ وفي الخَدَّيْنِ تَسْهيلُ
27 تُخْدِي عَلَى يَسَراتٍ وهي لاحِقَةٌ
ذَوابِلٌ مَسُّهُنَّ الأرضَ تَحْليلُ
28 سُمْرُ العَجاياتِ يَتْرُكْنَ الحَصَى زِيماً
لم يَقِهِنَّ رُؤوسَ الأُكْمِ تَنْعيلُ
29 كأنَّ أَوْبَ ذِراعَيْها إذا عَرِقَتْ
وقد تَلَفَّعَ بالكورِ العَساقيلُ
30 يَوْماً يَظَلُّ به الحِرْباءُ مُصْطَخِداً
كأنَّ ضاحِيَهُ بالشَّمْسِ مَمْلولُ
31 وقالَ لِلْقوْمِ حادِيهِمْ وقدْ جَعَلَتْ
وُرْقَ الجَنادِبِ يَرْكُضْنَ الحَصَى قِيلُوا
32 شَدَّ النَّهارِ ذِراعا عَيْطَلٍ نَصِفٍ
قامَتْ فَجاوَبَها نُكْدٌ مَثاكِيلُ
33 نَوَّاحَةٌ رِخْوَةُ الضَّبْعَيْنِ لَيْسَ لَها
لَمَّا نَعَى بِكْرَها النَّاعونَ مَعْقولُ
34 تَفْرِي الُّلبانَ بِكَفَّيْها ومَدْرَعُها
مُشَقَّقٌ عَنْ تَراقيها رَعابيلُ
35 تَسْعَى الوُشاةُ جَنابَيْها وقَوْلُهُمُ
إنَّك يا ابْنَ أبي سُلْمَى لَمَقْتولُ
36 وقالَ كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ آمُلُهُ
لا أُلْهِيَنَّكَ إنِّي عَنْكَ مَشْغولُ
37 فَقُلْتُ خَلُّوا سَبيلِي لاَ أبالَكُمُ
فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعولُ
38 كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ
يَوْماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ
40 أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَني
والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
41 وقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِراً
والعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبولُ
42 مَهْلاً هَداكَ الذي أَعْطاكَ نافِلَةَ
الْقُرْآنِ فيها مَواعيظٌ وتَفُصيلُ
43 لا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوالِ الوُشاةِ ولَمْ
أُذْنِبْ وقَدْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقاويلُ
44 لَقَدْ أقْومُ مَقاماً لو يَقومُ بِه
أرَى وأَسْمَعُ ما لم يَسْمَعِ الفيلُ
45 لَظَلَّ يِرْعُدُ إلاَّ أنْ يكونَ لَهُ
مِنَ الَّرسُولِ بِإِذْنِ اللهِ تَنْويلُ
46 حَتَّى وَضَعْتُ يَميني لا أُنازِعُهُ
في كَفِّ ذِي نَغَماتٍ قِيلُهُ القِيلُ
47 لَذاكَ أَهْيَبُ عِنْدي إذْ أُكَلِّمُهُ
وقيلَ إنَّكَ مَنْسوبٌ ومَسْئُولُ
48 مِنْ خادِرٍ مِنْ لُيوثِ الأُسْدِ مَسْكَنُهُ
مِنْ بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دونَهُ غيلُ
49 يَغْدو فَيُلْحِمُ ضِرْغامَيْنِ عَيْشُهُما
لَحْمٌ مَنَ القَوْمِ مَعْفورٌ خَراديلُ
50 إِذا يُساوِرُ قِرْناً لا يَحِلُّ لَهُ
أنْ يَتْرُكَ القِرْنَ إلاَّ وهَوَ مَغْلُولُ
51 مِنْهُ تَظَلُّ سَباعُ الجَوِّ ضامِزَةً
ولا تَمَشَّى بَوادِيهِ الأراجِيلُ
52 ولا يَزالُ بِواديهِ أخُو ثِقَةٍ
مُطَرَّحَ البَزِّ والدَّرْسانِ مَأْكولُ
53 إنَّ الرَّسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتَضاءُ بِهِ
مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ مَسْلُولُ
54 في فِتْيَةٍ مِنْ قُريْشٍ قالَ قائِلُهُمْ
بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أسْلَمُوا زُولُوا
55 زالُوا فمَا زالَ أَنْكاسٌ ولا كُشُفٌ
عِنْدَ الِّلقاءِ ولا مِيلٌ مَعازيلُ
56 شُمُّ العَرانِينِ أبْطالٌ لُبوسُهُمْ
مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ في الهَيْجَا سَرابيلُ
57 بِيضٌ سَوَابِغُ قد شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ
كأنَّها حَلَقُ القَفْعاءِ مَجْدولُ
58 يَمْشونَ مَشْيَ الجِمالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ
ضَرْبٌ إذا عَرَّدَ السُّودُ التَّنابِيلُ
59 لا يَفْرَحونَ إذا نَالتْ رِماحُهُمُ
قَوْماً ولَيْسوا مَجازِيعاً إذا نِيلُوا
60 لا يَقَعُ الطَّعْنُ إلاَّ في نُحورِهِمُ
وما لَهُمْ عَنْ حِياضِ الموتِ تَهْليلُ
حياة الشاعر: كعب بن زهير شاعر عربي مسلم مخضرم، عاش عصرين مختلفين هما عصر الجاهلية، وعصر الإسلام. اشتهر في الجاهلية. يعتبر كعب بن زهير من أعرق الناس في الشعر: فأبوه زهير بن أبي سلمى، وأخوه بجير وابنه عقبة وحفيده العوّام كلهم شعراء. تلقن كعب الشعر عن أبيه مثله مثل أخيه بجير، وكان زهير يحفظهم الشعر، ويقولون عن كعب أنه كان يخرج به أبوه إلى الصحراء فيلقي عليه بيتاً أو سطراً ويطلب أن يجيزه تمريناُ ودرّبه، كما أن كعباً كان في عصر ما قبل الإسلام شاعراً معروفاً أكثر من الحطيئة.
مناسبة القصيدة: يقول سيد أحمد محمد، أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر، في كتابه «شرح قصيدة كعب بن زهير»، أن هذه القصيدة لقيت عناية لم تحظَ بمثلها أخرى في تاريخ التراث العربي، وعُدَّت من أنفس المدائح وأعلاها مقامًا، وتناولها عشرات العلماء بالشروح المختلفة.
يوضح سليمان العُجيلي عادة العرب إذا وضعوا قصيدة مدح افتتحوها بـ «تشبيب» (إشادة) معبِّر عن الغزل، يشمل ما في المحب من صفات دلت على المحبة كالشغف والنحول والأرق والحزن وغيرها، وهو ما اختار كعب أن يبدأ به عمله الاستثنائي. ومن بعد الافتتاحية الغزلية انطلقت أبياته لتوجه المدح للرسول، ومن بعده المهاجرين.
والطريقة الرائعة التي اختار كعب أن يختم بها عمله كانت على أروع ما يكون، حيث ختم ببيت مدح للرسول خصه فيه بالذِّكر، ثم أعقبه بمدح أصحابه، واستمر يمدح المهاجرين من قريش في باقي الأبيات..
سبق جبير بن زهير أخاه إلى الإسلام، تاركًا الأخير على وثنيته، فشقَّ عليه ما فعله وانتقد تصرفه على طريقته، فبعث إلى أخيه أبياتًا يلومه فيها على الإسلام، ويتعرض فيها للنبي ولنساء المسلمين بهجاء مقذع، ولما علم الرسول بأمر هذه الأبيات أهدر دمه، قائلًا لأصحابه: «من لقي منكم كعبًا فليقتله»، لما انتشر وعيد الرسول له في أرجاء الجزيرة أبت قبيلة كعب أن تجيره، فضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهي مرحلة خلَّدها كعب في شعره. خاف جبير على أخيه، فبعث له رسالة يُطالبه فيها بالقدوم على النبي، وطلب الصفح منه، قائلًا له: ((إن كانت لك في نفسك حاجة فطر إليه، فإنه لا يقتل أحدًا جاءه تائبًا)). في ظل هذا الإحساس المضطرم الذي اختلطت فيه مخاوفه بتخلي الناس عنه برغبته في النجاة، تولدت قصيدته الخالدة لمدح الرسول، وتوجه بها إلى المدينة، ودخل عليه المسجد متلثما وهو لا يعرف إن كان سيخرج حيا. وكان خائفا كأي طريد مهدور دمه. والقصيدة نحو ستين بيتا لا يذكر كعب النبي إلا في بيتها الأربعين. القصيدة مجاز حنينا للزمن الماضي. وسعاد رمز للجاهلية التي أحبها وأحبته وكان فيها نجما وسيدا ثم انتهى زمانها. فأصبحت غولا تريد قتله. أيها القارئ ضع كلمة الدنيا أو الجاهلية بدلا من سعاد يستقم لك المعنى. ينزع كعب أقنعة المجاز ويصرح بخوفه على حياته التي أهدرت دمه. فبالرغم من فهم النبي لكلامه لم يغضب من كعب لعلمه أن الناس خلقوا للحنين لما عرفوا. فطمأنه وقال له: لا تخف. لم نأت لنضرك ولا لننتقم منك. وكما كنت شاعر في الجاهلية فأنت شاعر في الإسلام. و أن حياتك لن تنتهي بل ستبدأ اليوم، هاك بردتي إن لبستها ستجعلك نسبا يفخر بك الشعراء، وسنكرمك أكثر مما أكرموك.
تلخيص القصة:
سبق جبير بن زهير أخاه إلى الإسلام، تاركًا أخوه على وثنيته، فشقَّ على كعب ما فعل أخوه وانتقد تصرفه على طريقته، فبعث إليه أبياتًا يلومه فيها على الإسلام، ويتعرض فيها للنبي ولنساء المسلمين بهجاء مقذع، ولما علم الرسول بأمر هذه الأبيات أهدر دمه، لما انتشر وعيد الرسول له في أرجاء الجزيرة أبت قبيلة كعب أن تجيره، فضاقت عليه الأرض بما رحبت. خاف جبير على أخيه، فبعث له رسالة يُطالبه فيها بالقدوم على النبي، وطلب الصفح منه، قائلًا له: ((إن كانت لك في نفسك حاجة فطر إليه، فإنه لا يقتل أحدًا جاءه تائبًا)). كتب كعيب قصيدته الخالدة لمدح الرسول، وتوجه بها إلى المدينة، ودخل عليه المسجد متلثما وهو لا يعرف إن كان سيخرج حيا. والقصيدة نحو ستين بيتا لا يذكر كعب النبي إلا في بيتها الأربعين. القصيدة مجاز حنينا للزمن الماضي. وسعاد رمز للجاهلية التي أحبها وأحبته وكان فيها نجما وسيدا ثم انتهى زمانها. أيها القارئ ضع كلمة الدنيا أو الجاهلية بدلا من سعاد يستقم لك المعنى. ينزع كعب أقنعة المجاز ويصرح بخوفه على حياته التي أهدرت دمه. فبالرغم من فهم النبي لكلامه لم يغضب من كعب لعلمه أن الناس خلقوا للحنين لما عرفوا. فطمأنه وقال له: لا تخف. لم نأت لنضرك ولا لننتقم منك. وكما كنت شاعر في الجاهلية فأنت شاعر في الإسلام. وأن حياتك لن تنتهي بل ستبدأ اليوم، هاك بردتي إن لبستها ستجعلك نسبا يفخر بك الشعراء، وسنكرمك أكثر مما أكرموك.
المصدر: تميم البرغوثي، كتاب شرح قصيدة كعب بن زهير