لطالما سمعنا القصائد، مأخوذين بعمق المعنى، وفنية الصور، وجمالية الإيقاع. لكن هل فكرنا يوما بالقصص الكامنة وراء هذه القصائد؟ إذ يكاد أن يكون وراء كلّ قصيدة قصة، هي بمثابة المحرض على القول الشعري. سنتوقف فيما يلي أمام قصة مؤثرة، هي قصة قصيدة "بلقيس" لنزار قباني.
كان نزار قباني على موعد مع الحبِّ بشابة عراقية اسمها بلقيس، وقع نظره عليها عندما كانت تحضر أُمسية شعرية له في بغداد، أحبَّها وتقدم لخطبتها لكن والدها رفض أنْ يزوجها له، فخرج نزار خائباً مكسوفاً وغادر العراق حاملاً معه ذكريات بلقيس .وبعد فترة عاد إلى العراق مجدداً من أجل بلقيس وألقى قصيدة، يقول فيها:
مرحباً يا عراق
جئت أغنيك بعض من الغناء بكاء
أكل الحزن من حشاشة قلبي
والبقايا تقاسمتها النساء
وعندما سمع رئيس البلاد آنذاك ” أحمد حسن البكر ” تعاطف مع نزار قباني فقرَّر مساعدته بمحاولة إقناع والد بلقيس بتزويجه، وقد اقتنع والدها وارتبطا في سنة ” 1969 “، حيث انتقلت بلقيس مع نزار إلى بيروت محل إقامتة وعملت في السفارة العراقية.
وفي الخامس عشر من الشهر الأخير من عام 1981 دوى انفجارٌ في بيروت، ولم يكن نزار قباني يعلم أنَّ هذا الانفجار استهدف السفارة العراقية في بيروت، وأنَّ زوجته التي أحبَّها وأحبَّته قد ارتقت روحها في تلك الساعة.
كان موت بلقيس بالنسبة لنزار قباني طعنة كادت تجهز عليه، فهو لم يخسر بموت بلقيس زوجته وحسب، بل وقف أمام بلادٍ وأمِّةٍ آمن بها وكتب لها فاغتالت زوجته وكسرت قلبه، لذلك نجد في قصيدته (بلقيس)_ التي كتبها بعد الحادثة_ ثورةً ونقمة ما بعدها نقمة.
شكراً لكم... شكراً لكم، فحبيبتي قُتلَتْ
وصار بوُسْعِكُم أنْ تشربوا كأساً على قبرِ الشَّهيدةْ
وقصيدَتِي اغْتِيلتْ، وهلْ من أُمَّـةٍ في الأرضِ إلَّا نحنُ تغتالُ القصيدةْ؟
بلقيسُ كانتْ أجملَ الملكاتِ في تاريخِ بابِلْ
بلقيسُ... كانتْ أطولَ النَخْلاتِ في أرضِ العِراقْ
كانتْ إذا تمشي ترافقُها طواويسٌ وتتبعُها أيائل
بلقيسُ يا وجَعِي، و يا وجعَ القصيدةِ حين تلمسُهَا الأناملْ
هل يا تُرى من بعد شَعْرك سوفَ ترتفعُ السَّنابلْ؟
يا نينوى الخضراء، يا غجريَّتي الشقراء
يا أمواجَ دجلةَ تلبسُ في الربيعِ بساقِها أحلى الخلاخِلْ
قتلوكِ يا بلقيسُ؛ أيَّة أُمَّةٍ عربيةٍ تلكَ التي تغْتالُ أصواتَ البَلابِلْ؟
أين السَّمَوْأَلُ؟ والمُهَلْهَلُ؟ والغطاريفُ الأوائِلْ؟
فقبائلٌ أَكَلَتْ قبائلْ ،وثعالبٌ قَتَـلَتْ ثعالبْ، وعناكبٌ قتلتْ عناكبْ
قسماً بعينيكِ اللتينِ إليهما تأوي ملايينُ الكواكب
سأقولُ يا قمرِي عن العرب العجائبْ
فهل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ؟ أم مثلنا التاريخُ كاذبْ؟
بلقيسُ، يا عصفورتي الأحلى، و يا أَيْقُونتي الأَغْلَى
و يا دَمْعَاً تناثرَ فوق خَدِّ المجدليَّةْ
أتُرى ظلمتُكِ إذ نقلتُكِ ذاتَ يومٍ من ضفاف الأعظميَّةْ
بيروتُ تقتلُ كلَّ يومٍ واحداً مِنَّا، وتبحثُ كلَّ يومٍ عَن ضحيَّةْ
والموتُ في فِنْجَانِ قهوتنا وفي مفتاح شقَّتنا، وفي أزهارِ شرفتنَا
وفي وَرَقِ الجرائدِ، والحروفِ الأبجديَّةْ
ها نحنُ يا بلقيسُ ندخلُ مرةً أُخرى لعصرِ الجاهليَّةْ
ها نحنُ ندخُلُ في التَوَحُّشِ، والتخلُّفِ والبشاعةِ والوضاعةِ
ندخلُ مرةً أُخرى عصورَ البربريَّةْ
حيثُ الكتابةُ رحلةٌ بين الشَّظيّةِ والشَّظيَّةْ
حيثُ اغتيالُ فراشةٍ في حقلِهَا صارَ القضيَّةْ.
كتابة: نور عباس