سجل أنا عربي
محمود درويش (1941 – 2008 )
"سجل أنا عربي
سلبتَ كرومَ أجدادي
وأرضاً كنتُ أفلحُها
أنا وجميعُ أولادي
ولم تتركْ لنا.. ولكلِّ أحفادي
سوى هذي الصخورِ..
فهل ستأخذُها
حكومتكمْ.. كما قيلا؟
إذن
سجِّل.. برأسِ الصفحةِ الأولى
أنا لا أكرهُ الناسَ
ولا أسطو على أحدٍ
ولكنّي.. إذا ما جعتُ
آكلُ لحمَ مغتصبي
حذارِ.. حذارِ.. من جوعي
ومن غضبي"
طفل قروي نشأ بين الحقول وبين الأزهار ووجد نفسه فجأة منقطعاً عن هذه الطفولة ومزجوج به في عالم الكبار بسبب النكبة الفلسطينية عام 1948, غادر هذا الطفل الذي يبلغ من العمر ست سنوات مفارقاً أرضه التي يعرف إلى بلد كان يسمع أسمه للمرة الأولى وهو ( لبنان ) وبقي هناك حوالي سنة ليعود مع أهله متسللين إلى فلسطين فوجدوا قريتهم قد دمرت تماماً فتفاجأ الصبي الصغير بأنه يحمل أسم لاجئاً في بلاده ..
حاول "محمود درويش " أن يثأر لطفولته المسلوبة بالقراءة وأن يرسم عالمه المشتهى في خيال الكتب فألتهم المئات منها , ثم ما إن صار شاباً راح يجذف بين بحور الشعر إلى أن أصبح ظاهرةً مميزةً في حركة الحداثة الشعرية العربية , وقد توصل إلى مرحلةٍ جعلته في مصاف العالميين وأحد المرشحين لنيل جائزة نوبل العالمية في الآداب , ظل "درويش" طوال حياته يحاول أن يكون الشاعر الذي يريد ولكنه صار " مدينة الشعراء ".
تأثر في بداياته بالكثيرين ممن يشابههم في ثورته الأدبية وأبرزهم كان شاعر سوريا " نزار قباني " والذي أتهمه النقاد بأنه يقلده , ليرد في إحدى مقابلاته ويقول : " لقد خرجت من معطف نزار قباني " وهذا ما نجده واضحاً في قصيدة درويش التي تضم الرومانسية وحب الوطن معاً , فالحدود ملغاة بين امرأة درويش وفلسطين سيدته الأولى , سيدة الأرض ..
لم يكن درويش يملك أمام البنادق والدبابات سوى كلماته التي حملها من تراب فلسطين لينسج بها عشرات الدواوين والكتب السردية وأبرزها :
يوميات الحزن العادي1973 م
وداعاً أيتها الحرب وداعاً أيها السلام1974 م
عابرون في كلام عابر1991م
أثر الفراشة 2008م
في حضرة الغياب 2006م
محاولة رقم 7 عام 1973م
مديح الظلّ العالي عام 1983م
لماذا تركتَ الحصانَ وحيدًا عام 1995م
الجداريّة عام 2000م
كزهر اللوز أو أبعد عام 2005
لا أريدُ لهذه القصيدةِ أن تنتهي ، نُشر عامَ 2009م ، وكان ديوانَه الأخير ..
تحولت الكثير من قصائده إلى أغانٍ ظلت ترن في وجدان عشاقه , كقصيدة " سقط القناع " التي غنتها المطربة الكبيرة ماجدة الرومي للتعبير عن دعمها للمقاومة العربية في فلسطين , وقصيدته الأشهر " أيها المارون " التي غنتها أصالة نصري كمقدمة لمسلسل (صلاح الدين الأيوبي ) , أما قصيدة الأمومة الأشد تأثيراً إلى يومنا هذا " أحن إلى خبز أمي " والتي غناها صوت المقاومة مارسيل خليفة إضافة إلى الكثير من القصائد الدرويشية , فيمكننا القول أن مابين عود مارسيل وإحساس محمود قصة حب باكية و باقية عبر العصور ..
اُعتُقِل محمود درويش من قبل سلطات الأحتلال مرارًا بدءًا من العام 1961 بتهم تتعلق بتصريحاته ونشاطه السياسي وذلك حتى عام 1972 حيث توجه إلى الاتحاد السوفيتي للدراسة ، وانتقل بعدها لاجئًا إلى القاهرة حيث عمل في جريدة الاهرام في ذات العام والتحق بمنظمة التحرير الفلسطينية ..
في الفترة الممتدة من سنة 1973 إلى سنة 1982 عاش في بيروت وعمل رئيسًا لتحرير مجلة شؤون فلسطينية ، وأصبح مديرًا لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن يؤسس مجلة الكرمل سنة 1981.
بحلول سنة 1977 بيع من دواوينه العربية أكثر من مليون نسخة ، لكنه ترك بيروت سنة 1982 بعد أن غزا الجيش الإسرائيلي لبنان وطرد منظمة التحرير الفلسطينية منها. أصبح درويش منفيًا تائهًا ، منتقلًا من سوريا وقبرص والقاهرة وتونس إلى باريس.
توفي في الولايات المتحدة الأمريكية يوم السبت 9 أغسطس 2008 بعد إجرائه لعملية القلب المفتوح في مركز تكساس الطبي في هيوستن ، التي دخل بعدها في غيبوبة أدت إلى وفاته بعد أن قرر الأطباء نزع أجهزة الإنعاش بناءً على توصيته , ليعود هذا الطفل المسن إلى حضن الأرض التي لطالما ضمها بين أبيات شعره ..
وأعلنت السلطات الفلسطينية الحداد ثلاثة أيام حزنًاً على وفاته , وقد شارك في جنازته الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وبكته كل العيون التي عانقت كلماته يوماً , وري جثمانه الثرى في 13 أغسطس في مدينة رام الله حيث خصصت له هناك قطعة أرض في قصر رام الله الثقافي . وتم الإعلان أن القصر قد تمت تسميته « قصر محمود درويش للثقافة ».
رحل شاعر القضية تاركاً أثره الخالد في قلب العروبة والعرب ليبقى صوته يصدح في ميادين النضال إلى أن تتحرر بلاده التي أحبها حتى في خرابها الأخير ..
رحل جسداً أثقله المرض لتبقى روحه واقفة كأشجار الزيتون تنادي :
" هذا البحر لي
هذا الهواء الرطب لي
هذا الرصيف وما عليه من خطوات لي
وأسمي وإن أخطأت لفظ أسمي على التابوت
لي "