عندما يصبح الصحافي فدائياً لا يحمل السلاح بل يمسك قلماً نضالياً يمثل خطراً على العدو فنحن نتحدث عن "غسان كنفاني" أيقونة الأدب الفلسطيني المقاوم .
لم يحظى كنفاني بحياةٍ طبيعية بل أنه حمل آلام وطنه المحتل في قلبه منذ أن غادره مُهَجَّراً وهو يبلغ الثانية عشر من العمر ، بعد أن ولد في عكا عام ١٩٣٦ وقضى سنين طفولته في يافا .
بدأت رحلة لجوءه من لبنان ثم إلى سوريا حيث حصل على الشهادة الثانوية ودرس اللغة العربية في جامعة دمشق لكنه لم ينهي دراستها .. عمل كل ما تسنى له بحثاً عن لقمة العيش كالعمل في المطاعم وبيع الصحف عند مفارق الطرق ثم صار يكتب أسبوعياً في مجلة الرأي الناطقة بإسم حركة القوميين العرب فكانت انطلاقته الأولى بالنضال الصحفي .
انتقل برحلته إلى الكويت ليعمل مدرساً وبدأ هناك بالتأليف , إذ كان يكتب ليلاً ونهاراً لينتج بغزارة أعمالاً أدبية تشمل ثمانية عشر كتاباً ومئات المقالات , فحياته الإبداعية امتدت لثمانية عشر سنة تحت عنوانٍ لم يتبدل قط وهو ( فلسطين) بوصلته التي لم يحد عنها يوماً واحداً طيلة حياته القصيرة ..
- من أبرز أعماله :
أرض البرتقال الحزين (قصص قصيرة) :
مجموعة قصصية تعكس الأوجه المتعددة لمأساة الفلسطيني و تحمل بين سطورها طفولة غسان المعذبة كأنه أراد من القصة أن تكون مرآة الواقع والذاكرة .
- رجال في الشمس ( رواية)
تحولت إلى فيلم "المخدوعين" عام 1972 :
الرواية الأشهر التي تناولت قضية هجرة الشباب من بلادهم هرباً وخوفاً باحثين عن حياةٍ أفضل , لكنهم على موعدٍ مع القدر بين جدران خزان ، يتركنا غسان في نهاية القصة أمام سؤالٍ تمت مناقشته كثيراً (لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟) فظل كل من قرأها حائراً أمام الإجابة .. أتراهم طرقوا وصرخوا ولم يسمعهم أحداً كحال الشعب الفلسطيني أم أنهم استسلموا وحسب !!!.
- أم سعد (رواية) :
تتحدث عن امرأة اسمها الحقيقي "أم حسين" وقد عرفها غسان في مخيمات اللاجئين في لبنان فصورها بكتابه وكأنها فلسطين , حيث قال عنها “لقد علمتني أم سعد كثيراً ، وأكاد أقول أن كل حرفٍ جاء في السطور التالية إنما هو مقتنص من بين شفتيها اللتين ظلتا فلسطينيتين رغم كل شيء ، ومن كفيها الصلبتين اللتين ظلتا ـ رغم كل شيء ـ تنتظران السلاح عشرين سنة”.
- عائد إلى حيفا (رواية) :
تجسدت في فيلم بنفس العنوان ، وفيلم "المتبقي" إضافة إلى مسلسل "عائد إلى حيفا" ومسرحية ..
هذه الرواية التي تحاكي القصة الأكثر تعقيداً في مأساة الشعب الفلسطيني بأبطالها الذين غادروا بيتهم وأرضهم تاركين ولدهم صغيراً ليعودوا بعد عشرين سنة فيجدونه قد أصبح شاباً يهودياً في الجيش الإسرائيلي .. فهل يعيده الدم الفلسطيني إلى حضن أبويه أم أن البيئة تغلب القضية!!
- ما تبقى لكم (رواية) :
تحولت إلى فيلم "السكين" عام 1971
كانت هذه الرواية بمثابة نمطٍ جديدٍ في الأدب العربي عبر اشتغال غسان على التداخلات الزمنية والمكانية وأنسنت رموز الرواية كاستخدام الصحراء والساعة لتشكل شخصيتين جوهريتين فيها .. قصةُ يبين فيها الكاتب أمله بالجيل المتمسك بالدفاع عن أرضه ورفضه للذل والصمت .
والكثير من الأعمال الأخرى التي تنوعت بين الرواية والقصص القصيرة والمسرحيات لكن القاسم المشترك الذي جمعها هو رمزية الشخصيات التي تصب في فكر المقاومة واسترجاع الأرض المسلوبة ..
عندما عاد غسان إلى لبنان تطور كصحافي إبتداءاً من عمله كرئيس تحرير في مجلة الحرية ثم المحرر فالأنوار ، وتوجه بعد ذلك نحو مجلة ناطقة باسم الجبهة الشعبية بعد أن ألح على (جورج حبش) ليؤسسوا مجلة الهدف في بيروت عام ١٩٦٩ وكان لكنفاني مساهماتٍ فاعلة بتطوير ما عرف بالبوستر الفلسطيني من خلالها ، وفي وقت قياسي جعل من "الهدف" مجلةً تقدميةً لها قراءها في مختلف دول العالم.
أوصل غسان كلمته إلى الغرب حيث ترجمت كتبه إلى ١٧ لغة عدا عن مقابلاته باللغة الإنكليزية وأبرزها مع الصحفي الأسترالي "ريتشارد كارلتون" عام ١٩٧٠ والتي يرجح أنها سبب اغتياله فقد كان صارماً بها ومصمماً على التمسك بقضيته والقتال من أجلها رافضاً السلام والاستسلام .
تزوج غسان كنفاني عام ١٩٦٢ من الدينماركية " آني هوفر" المهتمة بشؤون فلسطين التي وجدتها متجسدة في غسان فوقعت بغرامهما ، تبنت آني القضية طيلة حياتها حتى أنها لم تسافر مع أولادها إلى بلدها الأم بعد استشهاد زوجها وكأنها تقول للقتلة أنها لم تستسلم وأنها باقية على عهد النضال ، وهي تقطن في بيروت إلى يومنا هذا وتدير (مؤسسة غسان كنفاني الثقافية) التي توظف نحو أكثر من ١٢٠ شخص وتهتم بأطفالٍ من المخيمات يبلغ عددهم ٦٠٠ وأكثر .
في الثامن من يوليو عام ١٩٧٢ أغتال الموساد الصهيوني غسان كنفاني ، فأعربت رئيسة وزراء العدو غولدا مائير عن سعادتها قائلة: " تخلصنا اليوم من لواء فكري مسلح " فقلم غسان قد فعل بهم مالم تفعله البنادق ..
سقط غسان جسداً لكن فكرته لن تموت .
رحل حبيب الزيتون والليمون ، رحل المناضل ، المقاتل ، المقاوم ، رحل شاباً في ثلاثينيات العمر وقد خجل مرض السكري من آلامه فـبكته أبر الأنسولين الذي عاش عمره وهو يحقن نفسه بها .
قتلوه وهم عاجزين عن النظر في عينيه لأنهم كانوا سيرون الزيتون بها يصرخ بأسم فلسطين ، لذلك تركوا المهمة لسيارته المفخخة .
فكتب محمود درويش في رثاءٍ له : " طوبى للقلب الذي لا توقفه رصاصة ولا تكفيه رصاصة . نسفوك يا غسان كما ينسفون جبهة أو جبلاً أو قاعدة ، وحاربوك كما يحاربون جيشاً بأكمله , لأنك رمزُ وحضارةُ وقلمُ ومدفع "
أكثر من خمسون عاماً مرت على اغتيال "غسان كنفاني" ومازالت كلماته تصدح بداخل كل الثوريين وتشكل منارة لهم لتنير طريق الحرية والعودة.