ابن زريق البغدادي.. شاعرٌ قتلته الدعابة
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
علي ابن زريق شاعرٌ لم ينتفع بشعره فحيث يسكن في بغداد ما من أحدٍ يقدر كلماته, لذلك عزم يوماً على الرحيل تاركاً زوجته رغم كل محاولاتها في حثه على البقاء, وقصد الأندلس ليلقي على مسامع أميرٍ فيها قصيدة مدح وتبجيل كي يمنحه جائزة مالية قيمة, ولكنه لم يعطه سوى دراهم قليلة على سبيل المزاح ولم يدرك ابن زريق ذلك.. ذهب إلى الخان الذي كان نازلاً فيه والهم يحيط به من كل جانب وقضى ليلته نادماً يفترسه شعورٌ بخيبة الأمل, فأمسك قلمه وخط أبياتاً يقر بها لزوجته بأنها كانت على حق, طالباً منها ألا تلومه:
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي لومه حَداً أَضَرَّبِهِ
مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ اللوم يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ
فَضُلِّعَتْ بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ
يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ
مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ
رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ
مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
إِنَّ الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً
وَلَو إِلى السَدّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ
تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه
للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ
وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ واصِلَةً
رزقَاً وَلا دَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ
قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ
لم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى
مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ
وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت
بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ
انتهت الدعابة وجاء حرس الأمير في اليوم الثاني ليأخذونه حتى يمثل أمام الأمير ويأخذ جائزته الحقة فوجدوه قد مات وفوق رأسه كتبت تلك الأبيات التي لم يعرف له سواها لذلك سميت بالقصيدة اليتيمة..
نبذة عن الشاعر:
أبو الحَسن علي بن زريق البغداديّ شاعرٌ عراقىّ ولد َ فى محلَّةِ الكَرْخ ببغدادَ, وهو شاعرٌ يتسم بالغرابة, فقد ظل غريباً قلباً وقالباً ولم يكن معروفاً بين أهل الأدب سوى أسمه وتلك القصيدة التي سميت باليتيمة أو فراقية ابن زريق, رغم قدرته الشعرية المهيبة في نسج هذه الأبيات إلا أنها كلماته الوحيدة..
كتابة: سوزان غنّام